«أهرامات مروي».. أحجار تحكي عن عبق التاريخ السوداني
إلهام محمد علي اليقينالأماكن دائما شاهدة على الأحداث وتدون التاريخ ببقايا الآثار التي تظل حاضرة لتحفظ ما تبقى من آثاره، وهذا ما فعلته "أهرامات مروي" التي تعرف اليوم باسم "أهرام البجراوية" نسبة لقرية البجراوية قرب مدينة شندي التي تبعد حوالي المائتين كيلومتر إلى الشمال الشرقي من العاصمة السودانية الخرطوم، أما اسمها العلمي فهو "أهرامات مروي" وهي من آثار مملكة نوبية عظيمة تدعى "مملكة كوش".
"مملكة كوش" التي سيطرت على الجزء الجنوبي من حوض النيل إلى الجنوب من مصر الفرعونية نشأت قبل ألف سنة من الميلاد تقريباً، غير أنها لم تكن المملكة الأولى في هذه المنطقة وإنما هي امتداد لحضارات نوبية أعرق أقدمها حضارة نشأت قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد في مدينة "كرمة" التي لا تزال آثارها الباقية قرب الحدود المعاصرة بين مصر والسودان تدهش علماء الآثار بتخطيطها المميز.
وقبل 1500 عام من الميلاد أمر الفرعون تحتمس الثالث ببناء مدينة "نبتة" عقب احتلاله لأراضي النوبة لتكون مركزاً للإقليم الجنوبي من مصر، وبقي شمال السودان (الذي عرف بكوش فيما بعد) تابعاً للحكم الفرعوني لخمسة قرون كاملة خلفت خلالها العديد من الآثار مثل معبد للإله آمون.
في عام 1070 قبل الميلاد أعلن نائب الفرعون عن منطقة "كوش" استقلال الإقليم عن الإدارة الفرعونية واتخذ من نبتة (التي تقع جوار مدينة كريمة الحالية ، 400 كيلومتر إلى الشمال من الخرطوم) عاصمة له ، واحتفظ ملوك "كوش" بالعادة الفرعونية المتمثلة في دفن ملوكهم في مقابر ملكية فارهة على شكل أهرامات، وكان بنائهم قريباً من النموذج المصري.
في القرن السادس قبل الميلاد وعقب الغزو الفارسي لمصر انهارت التجارة بينها وبين مدينة نبتة خصوصاً تجارة الذهب، وفقدت نبتة مركزها الحيوي وخسرت دورها لمصلحة مدينة أكثر فتوة في ذلك الوقت هي مدينة مروي التي أصبحت بدورها العاصمة الجديدة لمملكة "كوش" .
ويقسم علماء الآثار منطقة مروي إلى ثلاثة مقابر رئيسية: شمالية وجنوبية وغربية تضم في مجملها 34 ملكاً و 11 ملكة ومئات غيرهم من أفراد العوائل المالكة والحاشية مدفونين في خمسين هرماً في هذه المنطقة بنيت خلال فترة امتدت لأكثر من ألف سنة من عام 720 قبل الميلاد إلى عام 350 ميلادية.
تُعرض اليوم الكثير من الحلي والآثار المنهوبة في عدد من المتاحف الأوروبية كهذه المجوهرات التي تخص الملكة المروية "أمانيشاخيتو" المعروضة بالمتحف المصري في برلين والتي يرجع تاريخها للقرن الأول قبل الميلاد.
ومع أن السودان به أكثر من 220 هرما أثريا ، ومع أن أهرامات مروي مصنفة ضمن قائمة اليونسكو للتراث الإنساني العالمي، إلا أنها كلها كأغلب الآثار التاريخية في السودان لم تحظ بالرعاية والاهتمام اللائقين من قبل الحكومات السودانية المتعاقبة، لكنها تبقى صامدة عبر الزمن شاهدة على الحضارة السودانية العريقة.
اكتشاف مروي
عرف الأوربيون "مروي" في العصر الحديث عام 1821 م عن طريق عالم المعادن الفرنسي فريدريك كلود الذي زار مروي ثم عاد إلى أوربا ونشر ملفاً يصف فيه آثار مروي، ويعتقد أن هذا الملف كان السبب المباشر لحضور الكثير من صائدو الجوائز واللصوص الباحثين عن الذهب كأمثال الإيطالي "جوزيبي فريليني"، الذي اكتشف آثارا متنوعة وخصوصاً المجوهرات والحلي الذهبية الملكية التي تعرض في متحف برلين المصري اليوم.
وتم استكشاف "مروي" بدقة علمية لأول مرة عام 1844 م بواسطة العالم "كارل ريتشارد ليبسيس" الذي قام برسم العديد من الخرائط والرسومات والتي أودعها بجانب ما اكتشفه من تماثيل ومجوهرات في متحف برلين أيضاً.
كما جري استكشاف المنطقة مرة أخري في الفترة ما بين عامي 1902 إلى 1905 م بواسطة عالم المصريات والمستشرق الإنجليزي "إي. أ وليامز بدج"، وهو الذي اكتشف أجمل ما عثر عليه في مروي حتى الآن مثل مجسمات النحت البارز في حوائط المعابد التي تظهر أسماء الملكات وبعض الملوك وبعض فصول كتاب الموتى والمسلات المنقوشة باللغة المروية والأواني المعدنية وأعمال الخزف.
وقد تم تفكيك النحوت البارزة حجراً حجراً وتم نقلها إلى المتحف البريطاني و أعيد تجميعها جزئياً فيما تم تجميع الجزء المتبقي في متحف السودان القومي بالخرطوم، وقد نشر العالم "إي. أ وليامز بدج" كتاباً مهما في لندن عام 1907 م اسماه (السودان المصري : التاريخ والآثار).
وقد ثبت هذا العالم أن الأهرامات النوبية كان يتم بناؤها علي غرف نحتت في الصخر وتحتوي علي أجساد الملوك الراحلين التي عادة ما يتم تحنيطها كمومياء أو لا يتم كما في بعض الحالات.