«الكاف».. مدينة عتيقة يفوح منها عبق الأديان والتاريخ
إلهام محمد علي اليقينمدينة السلام والتعايش الإنساني جمعت الأديان السماوية تحت سماؤها، وشاهدة على معظم الحضارات التاريخية منذ العصر الحجري مرورا بالعهد الروماني ثم البيزنطي فالعربي الإسلامي وحتى الاحتلال العثماني، فأصبح يفوح منها عبق التاريخ الممزوج بالتسامح، إنها مدينة " الكاف" التونسية.
تقع على بعد 160 كيلو مترا من العاصمة التونسية في منطقة جبلية تتميز بطقسها البارد شتاء والمعتدل صيفا، ويتوسط قلب المدينة العتيقة، الجامع، والكنيسة الرومانية، ومعبد اليهود، مشكلّين ثالوثًا يوحي بالتآخي، والتعايش الإنساني، والدّيني.
"الكاف" مدينة تاريخية عريقة اكتُشف قربها أقدم موقع أثري يُعرف بـ"سيدي الزين" يعود للعصر الحجري، وهناك بقايا أثرية أخرى حول المدينة تعود لألف عام قبل الميلاد، أهمها الكهوف البدائية والقبور الصخرية.
وكانت "الكاف" قرية بربرية تُعرف باسم Sicca Veneria نسبة إلى فينوس إلهة الحب والجمال لدى الرومان؛عندما توسعت إمبراطورية قرطاج على حساب الممالك النوميدية اتخذتها كقاعدة حدودية، ووضعت فيها مرابطين صقليين انشأوا معبدا لـ"عشتروت" البونية آلهة الخصب والجمال، لكن الملك النوميدي ماسينيسا استطاع لاحقا أن يرجعها إلى مملكته بعد هزيمة القائد حنبعل في معركة "زامة" (202 قبل الميلاد)، لتسقط لاحقا في أيدي الرومان.
وتحتفظ "الكاف" بتراث معماري كبير يعود للفترة الرومانية والإسلامية وغيرها من الحضارات التي تعاقبت على المدينة، فبداية من العين التي ما زالت مقدسة باسم "للامنى" أي (هبة الله) تكونت جملة مرافق للاستحمام والترفيه، أبرزها العين الرومانية والرواق والمواجل (حفرة أو بركة يستنقع فيها الماء) والحمام.
ويربط بين منبع العين في أسفل جبل "الدير" ومصبها دهليز طويل متصل بقاعة مربعة وبجانبها الرواق بطول 40 مترا وعرض 6 أمتار وهو متصل بالحمام الروماني، وكان يستغل للنزهة والهروب من الحر والمطر.
وفي "الكاف" معلم طريف وغريب الشكل يعرف بـ"البازيليك" ويُرجح أنه كان مصرفا أو كنيسة مسيحية في القرن الخامس الميلادي، ويتكون من بهو محاط بأروقة مسقوفة ذات أبواب، وقاعة على شكل صليب مؤلفة من أربع غرف موزعة على الأركان، وتم استغلاله في وقت سابق كجامع عبر سقف البهو وإضافة صومعة للمكان، إلى أن تم لاحقا بناء "الجامع الكبير الجديد".
وهناك أيضا كنيسة "دار القوس" وهي من الطراز المسيحي القديم ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، إضافة إلى مقام "سيدي بومخلوف" (القرن الرابع عشر الميلادي) وهو نموذج للعمارة الدينية في العهد التركي، فضلا عن كنيس يهودي ومتحف العادات والتقاليد الشعبية والخزانات الرومانية، وتشكل القرية الحرفية و"مائدة يوغرطة" التي تقع على ارتفاع 1270 مترا تخليدا لذكرى القائد البربري يوغرطة المازيلي الذي تحدّى الإمبراطورية الرومانية.
أما رمز المدينة فهو "القصبة" التي تتألف من قلعة كبيرة بناها محمد باشا المرادي (ثاني البايات المراديين) عام 1679 ورممها علي باشا ثم خصصها حمودة باشا للعسكريين الأتراك، وحولها المعهد الوطني للتراث لاحقا لفضاء ثقافي، وهناك أيضا قلعة صغيرة بناها حمودة باشا عام 1817.
وتحيط بالقصبة أسوار طويلة رممها كل من علي باشا وحمودة باشا، وكانت تضم ثمانية أبراج وخمسة أبواب أحدها مخفي يُطلق عليه "باب الغدير" (وثمة مثيل له في قصبة العاصمة) وقام الفرنسيون عام 1908 بهدم جزء كبير من الأسوار.
وفي صورة تجسد تعايش الأديان في هذه المدينة، أتخذ المسلمون والمسيحيون واليهود، ممن مروا على هذه المدينة عبر عصورٍ وعاشوا فيها لأزمان مختلفة، جبل "سيدي منصور" المطل على المدينة، حتى يكون مستقرّهم الأخير، فقد كان المسلم، والمسيحي، واليهودي، متجاورين في حياتهم وحتّى مماتهم رغم اختلاف عقائدهم.