المصالحة اليمنية.. أي سبيل؟!
تحليل: أحمد محمود التلاوي اليقينيكاد أن يجمع المراقبون على أنه لا إمكانية للتوصل إلى تسوية بين الأطراف المتصارعة في اليمن، وربما يكون هناك بعض الحقيقة في ذلك عند النظر إلى الصورة بشكل كُلِّيٍّ من دون الخوض في دقائق تفاصيلها؛ إلا أنه عند تفكيك هذه الصورة إلى مكوناتها الأساسية؛ سوف يمكن الوقوف على بعض النقاط التي يمكن من خلالها النفاذ إلى معالجة سليمة للأوضاع في اليمن.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هذه المعالجة الضرورية لملف التسوية، ثم المصالحة في مرحلة تالية، تُعتبر ضرورة إنسانية قبل أن تكون ضرورة سياسية؛ حيث إن اليمن – بكل بساطة وعمق التعبير في آنٍ – تبتلعه الكوليرا والمجاعة بالمعنى الحرفي للكلمة.
ولسنا في هذا الموضع في مجال عرض الجانب الإنساني؛ إلا أنه من المفيد الإشارة إلى أحدث الإحصائيات التي ذكرتها الأمم المتحدة في شأن واقع وباء الكوليرا في هذا البلد المنكوب بالانقسام قبل الحرب، وهي عبارة مهمة سوف نراها تاليًا؛ حيث أساس أزمة اليمن ليس الحرب وإنما الانقسام؛ حيث هو الذي أفسح المجال للحرب واستمرار الحرب.
فقد أعلنت الأمم المتحدة، الجمعة 13 أكتوبر الجاري، أن انتشار وباء الكوليرا في اليمن سجل أعلى معدلاته على الإطلاق، مع تجاوز حالات الإصابة المشتبه بها 820 ألف حالة، فيما حصد أرواح نحو 2150 يمنيًّا (حالات مُسجَّلة) منذ 27 أبريل الماضي.
ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للمنظمة الدولية، قال إن الوباء متفشٍّ الآن في 92 بالمائة من إجمالي مساحة اليمن"، ووصفه بأنه "التفشي الأكبر على الإطلاق للوباء في سنة واحدة".
ولعل أول اشتراطات تحقيق التسوية في اليمن، ثم المصالحة بعد ذلك، هو اتفاق الأطراف اليمنية على ذلك وتسلحها بالإرادة السياسية لذلك، من أجل فرضها في الداخل وفي الخارج، مع أهم شرط لإنجاح أية تسوية، وهو استعداد مختلف الأطراف لتقديم تنازلات، والخروج من نفق فكرة صفرية الصراع الحالي في اليمن.
وهذا ضروري من حيث المبدأ، في ظل وجود عامل شديد الأهمية يزكي الصراع والحرب في اليمن، وهو التدخلات الإقليمية، ولاسيما التدخلات السعودية والإيرانية.
وبالتالي؛ فإنه من بين أهم اشتراطات البدء في تسوية ما في اليمن؛ هو عزل أو على الأقل تقليل فرص تدخُّل الأطراف الإقليمية الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، ووضع اليمن كعامل مشترك بين جميع أطراف الأزمة.
وبطبيعة الموقف؛ فإنه من غير الممكن القول بأنه يمكن تحقيق العزل الكامل للأطراف الإقليمية المتدخِّلة في اليمن؛ حيث هي في النهاية حرب بالوكالة بين الرياض وطهران، من خلال حلفاءٍ لكلا البلدَيْن، ومن دون دعم الرياض لهذا الطرف، ودعم طهران لهذا الطرف؛ فإن كليهما قد يجد نفسه خارج المعادلة تمامًا.
وهي حقيقة يجب على الجميع الاعتراف بها، ومختلف الأطراف اليمنية على قدر من الخبرة السياسية التي تؤهلها إلى قبول هذه الحقيقة.
لذلك من الأهمية بمكان أن يعمل كل طرف على وضع تصوره الخاصة بمعالجة الأزمة في اليمن بناء على هاتَيْن الحقيقتَيْن؛ أنها ليست مباراة صفرية، وأن التدخلات الإقليمية حاكمة.
ولذلك فإن كل طرف مطلوب منه في هذه المرحلة، بناء سياسة واقعية وتقديم رؤية تقوم على مبدأ الشراكة، لأنه من دون اعتراف كل طرف بالآخر؛ لن يمكن القول بأن الأزمة سوف تجد لها سبيلاً للحل.
ويُعتقد أن وضع الأمور في سياق المصلحة اليمنية سوف يعالج الكثير من المشكلات النفسية والسياسية القائمة بين مختلف الأطراف؛ حيث إن كل طرف منها يعلن صراحةً أنه يريد مصلحة اليمن كوطن للجميع فيما يفعل، وبالتالي؛ فإن مَن يرفض أي حل أو تسوية؛ سيتوجب عليه أن يواجه الرأي العام اليمني بالكامل، وسيؤكد أنه إنما يسعى لمصالح ذاتية من كل ما يجري، على حساب حياة ودماء اليمنيين، ووحدة أراضي البلاد.
ينبثق من ذلك ضرورة أخرى مهمة، وهي أن تؤمن جميع الأطراف بأن الفاعلين اليمنيين في الأزمة الحالية؛ إنما هم جزء من المكوِّن السياسي والاجتماعي في اليمن، وأن مختلف تجارب التاريخ في الأزمات المماثلة فرضت في ظل تشابه الظروف والأوضاع؛ أن يتم التوصل إلى حلول توافقية، تراعي الميزان النسبي للقوى، وحقيقة التواجد الاجتماعي والسياسي لكلٍّ من هذه القوى.
وأقرب نموذج إلى ذلك، ومرتبط بأطراف الأزمة الإقليميين؛ الحرب الأهلية اللبنانية؛ حيث انتهت بوساطة سعودية، أفرزت اتفاق الطائف الذي وضع في اعتباره عند توزيع السلطة، الواقع السياسي والديموجرافي والطائفي للبنان.
وقد يكون للبعض تحفظات على نقطة المحاصصة الطائفية التي تضمنها "اتفاق الطائف" في لبنان، إلا أنه في النهاية، كان هو الذي أنهى الحرب الأهلية التي كانت ولا تزال تُعتبر من أصعب الحروب الأهلية في التاريخ الحديث، وشهدت سوابق حالة لا مثيل لها في الحروب الأهلية في العالم العربي والإسلامي؛ عندما استخدِمَت المدفعية الثقيلة في قصف المدن.
ولقد تعرضت عملية الطائف لاختبارات عسيرة في السنوات الأخيرة، ولا يقف الأمر عند حدود سنوات الحرب السورية، وإنما إلى ما قبل ذلك عندما وقعت صراعات، بلغت أوجها في الكثير من النقاط الزمنية، مثل اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، عرَّاب الطائف الأول، في فبراير من العام 2005م، واجتياح بيروت من جانب "حزب الله"، في مايو من العام 2008م، والأزمات التي وقعت في مخيم نهر البارد في فترات عديدة في السنوات القليلة التي سبقت الحرب في سوريا.
وليس من العشوائية اختيار نموذج الطائف؛ حيث إن الأمر قريبٌ من الأوضاع في اليمن، حتى فيما يتعلق بتشابه الأطراف الإقليمية الداعمة لهذا الطرف أو ذاك في الداخل؛ فإيران، خلال وما بعد الحرب الأهلية في لبنان، تدعم شيعة لبنان، و"حزب الله" اللبناني على وجه الخصوص، قريب الصلة في سياقات وجوده وعلاقاته بإيران، بجماعة "أنصار الله" الحوثيين في اليمن.
كذلك في لبنان، كانت السعودية تدعم أطرافًا سُنِّية، كما في حالة آل الحريري، وكانت الأمور في العداء بين الرياض وطهران – خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية – تشابه ظروف الصراع المفتوح الراهن بين الرياض وطهران، في سوريا وفي اليمن، وفي سياقات إقليمية أخرى في وقتنا الراهن؛ حيث كانت الرياض تدعم وبقوة، بالمال والسلاح، عراق صدام حسين في حربه مع إيران، وكان الثمن تدمير مدن إيرانية، وضياع أرواح نصف مليون إيراني.
ربما يختلف الأمر في الرياض، باختلاف القيادة السياسية؛ حيث مقاليد القرار الحقيقية في يد الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ووزير الدفاع، وهو مختلف تمامًا عن الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك السعودية خلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان؛ حيث كان الملك فهد أكثر حكمة وهدوءًا في إدارة الأزمات بشكل عام، وفق مقارنات عدة، مما يفرض العمل على تقديم بعض المغريات للأمير محمد بن سلمان، من أجل التعاون في تسوية الأمور في اليمن.
ويفرض ذلك – من جهة أخرى أو بطريقة قول أخرى – أن يعتمد الجميع مبدأً للحل؛ أن أية وثيقة على غرار وثيقة الطائف يتم التوصل إليها، أو حتى تصور للحل يطرحه أحد الأطراف؛ ينبغي أن يراعي المصالح الإستراتيجية للأطراف الأخرى، والتي لا يمكن لهم التفريط فيها، باعتبار أنها مصالح أمن قومي.
وللتوضيح؛ فعلى سبيل المثال؛ يجب توجيه طمأنات إلى الرياض بشأن مسألة ممارسة إيران لأنشطة تمس الأمن القومي السعودي من المناطق اليمنية، وهذا يمكن من خلال منظومة من الترتيبات الأمنية على الحدود، وكذلك تطبيق اتفاق أمني عسكري شامل، يضمن أن تكون أية تحركات ذات طابع أمني أو عسكرية في أية بقعة من اليمن؛ تتم تحت سيطرة الحكومة المركزية، وبأوامر مباشرة من رئيس الدولة أو رئيس الحكومة، بحسب طبيعة النظام السياسي الذي سوف يتم الاتفاق عليه، ما بين رئاسي وبرلماني.
كما يمكن ترتيب ضمانات ذلك بوضع الإطار الأمني والعسكري على وجه الخصوص في أول ثمانية أعوام من مرحلة ما بعد أول انتخابات تشريعية ورئاسية ومحلية تتم لاستكمال مؤسسات الدولة؛ في يد لجنة ممثَّلٍ فيها جميع الأطراف الفاعلة في الحرب الحالية، وكذلك سلطات الدولة المختلفة؛ بحيث يكون أي تحرك أمني أو عسكري معروف للسلطة التشريعية كما التنفيذية، ومعروف لدى قيادات الدوائر السياسية الكبرى في اليمن.
ويضع ذلك مهمة ضخمة على عاتق الجميع، يجب أن تكون أول مهمة يتم الاضطلاع بها في أول دقيقة لوقف الحرب، وهي توحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية للدولة اليمنية، ويكون الإشراف عليها في البداية من خلال لجنة عسكرية تكون الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ممثلةً فيها، بالإضافة إلى ممثل غير سعودي من دول مجلس التعاون الخليجي، لأجل ضمان أقصى قدر من الحيادية في عملها.
ويمكن البدء بإعلان مبادئ ونوايا يتم التوصل إليه بعد سلسلة من الاتصالات السرية التي تتم بشكل مباشر بين صنعاء والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، من دون المرور بأية وساطات أو أطراف أخرى، مع التأكيد على ضرورة استبعاد الإخوان المسلمين وأي طرف غير رسمي أو ممثل في السلطة حاليًا، من الاتصالات.
ويُعلن الجميع في إعلان المبادئ هذا التزامهم بالمبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، مع تقديم ضمانات أمنية "بعدم تهديد أي طرف في اليمن للأمن الإقليمي، أو المساس بأمن واستقرار دول الجوار"، مع طلب مراقبة إقليمية من سلطنة عُمان والكويت لوقف مبدأي لإطلاق النار في كل أنحاء اليمن يلتزم به الجميع، ويشمل تعليق الضربات الجوية للتحالف الذي تقوده الرياض.
يشمل ذلك إجراء اتصالات مكثفة من جانب قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام، شريك الحكم في صنعاء، و"الحليف" اللدود للحوثيين، مع الإمارات باعتبار أنه الأقرب إلى التفاوض مع أبوظبي لاعتبارات عديدة، من بينها وجود أحمد علي صالح، نجل الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، هناك، وفيما يقود صالح الأب، حزب المؤتمر؛ فإن صالح الابن، قائد الحرس الجمهوري، أحد أهم الأرقام الصعبة في معادلة القوة على الأرض.
واختيار الإمارات مبني على أسس مهمة، من بينها علاقاتها مع الرياض، والتي تمكنها من نقل وجهات النظر بصورة أفضل، والتفاهم مع الرياض بشكل أكثر فاعلية، كما أن لها مصالح اقتصادية إستراتيجية في استقرار اليمن، ولها تأثير كبير على الأرض ربما أكثر من الرياض، ويمكنها أن تساهم بفاعلية مع ضامن أكبر مثل الولايات المتحدة في تثبيت وقف حقيقي لإطلاق النار.
وفيما يخص وقف إطلاق النار؛ فإنه يجب أن يشمل تقديم ضمانات حقيقية، وفق ترتيبات شاملة على الأرض، تتضمن الآتي:
- ابتعاد أية قوات تابعة للحوثيين عن الحدود السعودية بمسافة 10 كيلومترات على الأقل.
- وقف الطلعات الجوية للتحالف العربي في الأجواء اليمنية.
- وقف شامل للعمليات العسكرية على الأرض.
على أن تُترك مسألة رفع الحصار المتبادل على المدن اليمنية الكبرى لمرحلة تالية؛ لأنه سيكون من الصعب ذلك قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، مع كون الحصار يرتبط بسيطرة كل طرف على مناطقه، وبالتالي؛ فإن رفع الحصار سوف يمس هذه السيطرة جزئيًّا، وبالتالي؛ يجب البحث عن ترتيب معين لعبور وحركة قوافل المساعدات قبل رفع الحصار.
ولا يمكن بطبيعة الحال عدم وضع الولايات المتحدة في الصورة، وتزداد أهمية ذلك في ظل التشدد الذي أبداه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب إزاء إيران وحلفائها في المنطقة.
هنا يبرز أهمية دور المؤتمر والرئيس صالح في إجراء اتصالات مماثلة مع الولايات المتحدة من خلال القنوات السرية التي كانت ناشطة وقت حكم صالح في موضوع مكافحة الإرهاب، من أجل ممارسة ضغوط على الرئيس الأمريكي من خلال ملف الأمن ومحاربة "تنظيم القاعدة" الذي يُعتبر أولوية لدى ترامب، لكي يمارس بدوره ضغوطًا على السعودية لقبول التصورات المبدأية لوقف الحرب والبدء في ترتيبات جدية لسلام دائم وعملية سياسية أكثر سلاسة في اليمن.
هذه الترتيبات بطبيعة الحال يجب أن تشارك فيها منذ البداية، الأمم المتحدة، مع ضرورة أن تعمل صنعاء على وجه الخصوص باعتبار أن التشويش الأكبر يتم على مواقفها، باعتبار أن الشرعية معترف بها للرئيس عبد ربه منصور هادي، والذي تدعمه الرياض، والتي عملت بدورها طيلة السنوات الماضية التي تلت أزمة اقتحام الحوثيين على العاصمة صنعاء، على تصوير الأزمة على أنها انقلاب على الشرعية، وأن المشكلة في صنعاء وتحالفاتها.
وبالتالي؛ فإنه على صنعاء أخذ الخطوة الأولى وفق ترتيبات وضمانات تقدمها السعودية، وهذا أمر واقع وموضوعي يجب على الأطراف هناك أن يكون لديها قناعة به.
يشمل ذلك توجيه رسائل ذات طابع سري إلى المبعوث الأممي الخاص باليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، تشرح له فيها صنعاء مختلف جوانب الوضع الراهن، ومستوى استعدادها للإقدام على تقديم اختراق في الأزمة، شريطة الحصول على ضمانات من الرياض، وهنا يكون للمسار الإماراتي دور شديد الأهمية في تسهيل الأمور.
ولعله لم يتبقى في هذه الرؤية العامة، سوى الإشارة إلى أهمية تشكيل ما يمكن أن يطلق عليه مسمى "لجنة حكماء" من ساسة ورموز يمنيين من الداخل والخارج، ومن مختلف الأطياف، ممَّن عُرف عنهم رفضهم للحرب، ولتقسيم اليمن، من أجل متابعة هذه الاتصالات والترتيبات.
وفي الأخير؛ نشير إلى أن أهم ما يجب العمل عليه في هذه المرحلة، هو بناء ثقة مع الرياض، لاعتبارَيْن؛ الاول أن قرار الحرب في يدها هي بالأساس، والثاني، أنها تملك ورقة الشرعية في اليمن، ومن خلالها تقوم بكل ما تريد تمريره من سياسات في اليمن.